الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / دور الميديو-غالطة في إفساد المعنى

دور الميديو-غالطة في إفساد المعنى

ادريس هاني

لازلنا كالمغفّلين لا نخضع لقانون حماية المستهلك في مجال الميديا، تلك التي نشأت لكي تقدّم وجبة فاسدة إلى جمهورها وعلفا ينتفخ به وعي متلقّيها بالأفكار المزيّفة..أمّا الصحافة الصفراء، فهي في الحقيقة صناعة خبيثة نشأت في بيئة أرقى حتى في تكلّف الخداع..على الأقل كان صانع الصحافة الصفراء في أمريكا قادرا على تغطية أغلب الولايات بمنشوراته التي تلتزم إيقاعا منضبطا في النّشر، كما كان يعتبر نفسه مقاولا ناجحا وليس نصّابا “صفريطا”..كما أنه كان يعتبر نفسه مستثمرا وليس مناضلا..لكن ما قيمة صحافتنا الصفراء إن لم نقل تلك التي لها لون الأطعمة الفاسدة المنفّرة البائسة؟

من هنا كانت الحاجة إلى قانون لحماية مستهلك المعلومة، حمايته من استغلال مافيا المعلومات الزائفة، وأيضا من فوضى الأغراب على مهنة فهموا منها أول ما فهموا أنها وسيلة للنصب والاحتيال..ويبدوا أنّ الأمر لم يعد يطاق، ولا أمل من إصلاحه سوى بسنّ قوانين صارمة لرفع إيقاع العملية الإخبارية وفرض شروط بالغة التعقيد على من يتولّى تأويل الخبر..وهنا تبدو الدعوة ناجزة لتحقيق عدالة إعلامية شاملة تتبع كل أساليب المغالطة التي تتوسلها الميديا في السيطرة على الجمهور..لكن تلك مهمّة من؟

إنها من ناحية أخرى تبدو دعوة مستحيلة لأنّ الميديا تلعب على إيقاعات مختلفة بدء من الشبكات الكبرى إلى صحافة الأرصفة والحارات..فما العمل؟

إنّ جزء من عملية التنوير تكمن في التّصدّي لهذا الوباء الذي يستهدف الوعي صباح مساء، ولهذا السبب يتسلل إلى هذه الصناعة طفيليات ترعى على غيبة وعزوف المثقف عن القيام بمهمة محق هذا الزيف..المثقف وحده يستطيع أن يقوض نقائض أي خطاب إعلامي بليد..يمتلك المثقف الحقيقي قدرة فائقة على تتبع هسيس الزيف في طبقات وجيوب الخطاب الإلتفافي..المثقف القادر على الإطاحة بحيل الأيديولوجيا وهي تسعى من دون استحياء للالتفاف على الواقع..

لقد تراجعت في زمن الانتشار الافتراضي مقاييس الجودة واختلطت الحقيقة بالزيف وسهلت المهمّة على كل نصّاب محتال في القطاعين المادّي والرمزي، بينما يتحسّر المثقف الذي نسجح المفاهيم بعناية وتكبّد ملحمة النظر والتّأمل كادحا ومجتهدا ومناضلا، لا يدري أنه جزء من هذا البؤس حين استقال من مهمّته التي تقوم على النقد والتفكيك والرقابة على المنتوج الثقافي..استقالة المثقف أو جبنه أو يأسه ساهم في بروز الضحالة وتراجع الوعي وشيوع أنماط من الاستهلاك الجنوني لفاسد المعنى وسطحي الرّأي..دعني أثير هنا مغالطة أخرى باتت ترسل في مناسبة أو غير مناسبة لقمع سيرورة النقد: أعني مغالطة الاختلاف في الرّأي..ففي بيئة الخطاب العلمي لا يصار إلى الرأي لمجرد التّلفّظ..فالتلفظ هو فعل فارغ ما لم يكن يقوم على حدّ أدنى من الإقناع..يفترض في كل خطاب حتى وإن كان مخالفا أن يكون نسقا يستند إلى مدارك منطقية..قد يكون المبنى اللغوي والنحوي سليما ولكن المحتوى المنطقي غير سليم..الاستنتاج متكاثر لكن لا خلاف في الأسس المنطقية للحقيقة..بينما ساهمت وسائل الإعلام المغالطة في عرض الأفكار في ظرف زمني لا يكفي لتغطية بضعة مقدمات دون بلوغ الاستنتاج وتنتهي الحكاية بتعزيز الاختلاف في الرأي الذي هو في الحقيقة صدام بين العلم والجهل أو صدام بين الجهل والجهل..استغل أهل النصب والاحتيال مغالطة الاختلاف في الرأي ليحتلوا مساحات وجيوب في مصارع المعنى، فأصبح كل شيء يمرّ تحت طائلة: الاختلاف في الرأي..لا تستطيع في زمن الفوضى أن تدين نصّابا لأنه سيتترس بمغالطة الاختلاف في الرأي بينما أصل الخلاف هو في أصول الاستنتاج وفي قيم الاعتراف بالحقيقة..لقد أصبح مجال المعنى رخوا بفعل تحكم الميديو-غالطة..فكل شيء رأي، وكل شيء سواء..عالجنا مرارا مغالطة تساوي الأدلّة وهي قضية بالغة الأهمية في الدرس المنطقي، وهي تنخر جدوى العلم نخرا لذا لاذ بها السوفسطائي لكن بلياقة حجاجية معقدة بينما تساوي الأدلة اليوم يتم بوقاحة وتبسيط وصخب..حينما يستقيل المثقف ولا يباشر رقابته على المجال فسيتعرض المشهد للاحتلال من أهل النّصب الذين اكتسبوا مهارات في خداع هوامش المجتمع ليتطوروا في اتجاه محاولة النّصب على المفاهيم..هكذا باتت الصحافة الصفراء والصحافة المهنية شيئا واحدا..وبات المثقف الحقيقي والمثقف المزيف شيئا واحدا..كما بات السياسي الحقيقي والسياسي النّصاب شيئا واحدا..إنّ تساوي القيم والأفكار والأدلة هو سمة من سمات الانحطاط في زمن الميديو-غالطة..

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *