الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / مغالطة تحشيد الحدث اللاّتاريخي

مغالطة تحشيد الحدث اللاّتاريخي

ادريس هاني

هناك ما يمكن أن نطلق عليه الرصيد التّاريخي للحدث السياسي..فليس كل حدث من هذا القبيل يملك بالضرورة رصيدا تاريخيا..بل ليس بالضرورة أن كل حدث سياسي له امتداد أطول في التّاريخ..وبين الحدث ذي الرصيد التاريخي الأوفى والحدث الذي لا يملك رصيدا تاريخيا يتيه النظر والتحليل وتتضارب وجهات النظر..وغالبا ما تعتمد المغالطة عدم التمييز بين الحدثين فتبارز التاريخي باللاّتاريخي وتحشّد الأحداث الفارغة في وجه الحدث الممتلئ..

في جملة الأحداث التاريخية التي تصنعها المقاومة تعتمد وسائل الإعلام المضللة سياسة إخبارية وأنماط في التحليل تنتمي لمغالطة خلط التّاريخي واللاّتاريخي..وأحيانا يتم ربط وسائل الإعلام بافتعال أحداث معينة..وهذا النوع من الخداع تمّ رصده في مناسبات كثيرة حيث تمّ تفكيك قنبلة في إحدى المساجد باليمن بينما كانت وسيلة إعلامية تتحدث قبل دقائق عن حدث انفجار قنبلة في ذات المسجد..وحصل مثله في سوريا أيضا وفي العراق..الحدث المفتعل هو شكل من التحشيد الحوادثي لمواجهة الموقف التّاريخي..وعادة الحدث المفبرك لا يتمتع بالعناصر الكفيلة بأن تجعله تاريخيا لسبب بسيط هو أنه حدث يحمل بذور نقائضه معه التي تحرمه من الاستمرار في ذاكرة الأحداث التّاريخية..

يعد إفشال مشروع الشرق الأوسط الجديد حدثا تاريخيا..يعد انتصار سوريا على المحور الإمبريالي حدثا تاريخيا..يعدّ انتصار المقاومة العراقية على داعش حدثا تاريخيا..يعد انتصار المقاومة اللبنانية وصمود الشعب الفلسطيني حدثا تاريخيا..لكن أي قيمة تاريخية لجملة الأحداث التي يرصدها الإعلام المضلل ويحاول من خلال تحشيدها أن يخفي معالم انتصارات المقاومة..

وأعتقد أن في جملة ما يحدث اليوم من أحداث ذات أبعاد تشويشية هناك أحداث غير تاريخية تصطنع في الماكنة الاستراتيجية الإمبريالية لكي تشوّش على انتصار محور المقاومة..لأنّ لا شيء أصعب من إعلان الانتصار على المشروع الأمريكي والصهيوني..ستكون صدمة أكبر من صدمة الهزيمة في فيتنام..الصدمة التي أحالت الجندي الأمريكي يخضع للعلاج النفسي فترة طويلة من الزمن..ثم إنّ مقتضى الاستراتيجية الأمريكية اليوم هي الضغط في اتجاه الماكس -مين في لعبة هم فيها الخاسرون..أي تحقيق أقل الخسائر بواسطة الضغط..

هناك مقاومة عتيدة تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية لكي لا تتحوّل إلى قطب ضمن أقطاب متعددة في نظام دولي فقد عناصر البقاء على أساس النمط السابق..من ثنائية القطبية إلى آحاديتها إلى تعدديتها، لأنّ المرحلة الانتقالية من نهاية الحرب الباردة إلى اليوم لم تحقق نقلتها النوعية..اليوم تحاول الإمبريالية أن تحتوي ما هو ممكن وتحصد ما تبقى في خزينة النظم الهشة والغنية بالنفط قبل إرساء النظام العالمي الجديد الذي سيكون فيه المستقبل أفضل فقط لمن قاوم ودافع عن سيادته..

قيمة الحدث التاريخي هي من يحدد مصائر الشعوب والأمم..فمن يعيش أحداثا فارغة وغير تاريخية فهو لا يعيش الحدث الاستراتيجي الحقيقي..ومع ذلك تسعى سائل الإعلام لملئ هذا الفراغ بأحداث لا توزن في ميزان الاستراتيجيا والتّاريخ..وهي في حدّ ذاتها شكل من الأفيون الذي تستهلكه الشعوب بوصفها البيئة الحاضنة للاستغباء وبوصفها المستهلك الخاضع الذي تمارس عليه السياسة بامتياز..

بين الحدث التّاريخي والحدث اللاّتاريخي يتسلل الخطأ وتنبت أكثر الأفكار السياسية التي تشكّل ملهيّة للسياق العميق للأحداث..هناك يفتح سوق الدّجل السياسي والقراءات الفاسدة والنظرات المبسّطة للسياسة والتاريخ..يبدأ الزيف حين نبني الموقف التاريخي على أحداث غير تاريخية..وتبدأ المسيرة المارطونية للمغالطة حينما نبتلع طعم وسائل الإعلام المضللة التي تستدرجنا للموقف الخطأ..

تعتمد مقاومة الإعلام المغالط على امتلاك أدوات التمييز بين الحدث التاريخي والحدث اللاّتاريخي..فالأوّل فريد قلّما يحدث والثاني مكرر تنطفئ شعلته سريعا بينما لا يؤسس لمسار حقيقي في تطور الأحداث..حينما ندرك بأنّ معركة الإمبريالية هي من أجل تغيير الخريطة الجيوسياسية للمنطقة في أفق شرق أوسط جديد تدبّر فيها المصالح الإمبريالية بجودة عالية فلا ينبغي اختزالها في صراع ثقافات وطوائف وأعراق..كما لا ينيغي اختزالها في ملفات مطلبية كان من المفترض أن تواجه بها الإمبريالية نفسها التي لا زالت تجعل من دمقرطة البلدان الثالثية خطرا على أمنها القومي..هذا النسيان الذي تمارسه الإمبريالية التي أقنعت الشعوب بفائض القوة الناعمة لنموذجها المستحيل التطبيق لأنّ مشروع الديمقراطية هو كفاح داخلي لأنّ العلاقة بين الإمبريالية والدول الخاضعة لم تكن ديمقراطية يوما، وبالتالي فإنها ديمقراطية تقف عند عتبة الاحتجاج على المطالب اليومية التي تعزز إرادة الاحتجاج في حدود العلاقة بين الداخل والداخل ولكنها لا ترقى إلى ديمقراطية تحرير قرار أمّة في مصارع الجيوبوليتيكا..لقد خضعت الشعوب لهذا العلف الفاسد من المفاهيم التي جعلتها أكثر انتفاخا ليدلس بها وسطاء تجارة الخرفان على المستهلك..لذا احذروا على الصحة من هذا الفساد الإعلامي الكبير…

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *